بيسلان.. مدينة الملائكة

مجتمع

بيسلان.. مدينة الملائكة
انسخ الرابطhttps://r.rtarabic.com/kq0w

تمر اليوم الذكرى الرابعة عشرة على مأساة بيسلان، التي حدثت في مثل هذا اليوم من عام 2004.

1

  في يوم الأربعاء، 1 سبتمبر 2004، استعدت بوليتشكا (تدليل لاسم بولينا بالروسية) ذات الـ 9 سنوات كعادة جميع التلميذات في مدينة بيسلان بجمهورية أوسيتيا الشمالية، وروسيا عموما لما يسمى بـ"الجرس الأول"، وهو احتفال اليوم الأول من الدراسة، حيث يرتدي التلاميذ ملابسهم الجديدة، وتربط الفتيات ربطات الشعر الحمراء المميزة للتلميذات، ويحمل الجميع الزهور للمعلمين، ويصحبهم في ذلك اليوم أولياء الأمور ويقضون بعض الوقت معهم، وينتهي اليوم مبكرا.

كان من حسن الحظ ذلك العام أن بداية الدراسة يوم الأربعاء، ما يعني أن الأيام الثلاثة الأولى سوف تكون للاحتفال، وستبدأ الدراسة الفعلية يوم الاثنين. اصطحبتها في ذلك اليوم جدتها زوخرا ماخوربيكوفنا معلمة اللغة الروسية سابقاً، حيث أن والديها لم يتمكنا من الاعتذار عن أعمالهما لاصطحاب ابنتهما الوحيدة، سوف تنتظرهما بوليتشكا في المساء...وسوف تغرقهما بحكاياتها التي لا تنتهي، وسوف تختلق الطرائف والنكات لتحاول جذب اهتمامهما، الذي ينصب كل ليلة على جهاز التلفزيون، حيث يتابع الأب أخبار الرياضة، والأم بعض المسلسلات الروسية الجديدة...

....

لكن شيئاً من ذلك لن يحدث.. ولن يعود أحد إلى البيت في تلك الليلة، ولن تكون هناك أي أنباء عن أي رياضة، ولن تكون هناك مسلسلات، أو أي شئ آخر سوى خبر عاجل في شريط الأخبار، سوف يبتلع جميع الأحداث والأخبار الأخرى، وكلمة واحدة سوف تختفي وراءها كل الكلمات، وسوف تعبر "بوليتشكا" في ذلك الصباح، كل حواجز الجغرافيا والتاريخ، بينما يمارس والداها أعمالهما، وسيندم الوالدان على كل ثانية صغيرة لم يحتضناها فيها ..

2

تقع "مدينة الملائكة" على تخوم مدينة بيسلان في جمهورية أوسيتيا الشمالية التابعة لروسيا، وتقف هناك المقبرة التذكارية التي أنشئت، في 3 سبتمبر 2005، ودفن بها معظم ضحايا حادث بيسلان. تقف شجرة الأسى البرونزية، التي نفذها النحاتان كورناييف ودزاناجوفي، شاهداً على تغيّر الوعي البشري في عالم ما بعد هجمات نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر.. تقف الشجرة وكأنها إعادة لصياغة الأسئلة الوجودية للإنسان: كيف؟ لماذا؟ متى؟ من؟ أين؟ وماذا بعد؟

على شاهد القبر الذي تعتليه صورة لبوليتشكا المبتسمة ببراءة لهذا العالم القاسي، وضع والداها علاوة على إكليل الزهور، وشاحاً أحمر، كتب عليه: "خريجة عام 2013"، في تلك السنة تحديداً كانت بوليتشكا ستنتهي من دراستها المدرسية، وربما كانت ستلتحق بالجامعة..

في زيارة لبيسلان، رأيت المدرسة التي جرت فيها أحداث المجزرة المؤلمة، وشاهدت آثار الرصاص والتفجيرات، وعلى جدران ملعب كرة السلة علقت صور الشهداء، بينما وقفت السلّة المرتفعة الصدئة في آخر الملعب تنتظر كرة لن تدخلها أبداً...

3

في صباح ذلك اليوم، وبينما تعج المدرسة بالتلاميذ وأقربائهم، ويمتلئ الجو بالضحكات والأناشيد والطوابير وربطات الشعر الحمراء، وفي تمام التاسعة صباحًا هاجم المدرسة فيلق "رياض الصالحين" المكوّن من عشرين إلى أربعين إرهابي من الإنغوش والشيشان بقيادة "العميد" (رسلان خوتشباروف) و"عبدالله" (فلاديمير خودوف)، واللذان يأتيان تحت إمرة الانفصالي شاميل باساييف، سعيا لإقامة "الخلافة الإسلامية" في القوقاز!

احتجز فيلق "رياض الصالحين" جميع الموجودين في المدرسة في قاعة الرياضة المغطاة، ملعب كرة السلة بالمدرسة، كان يوماً حاراً، وكان عدد المحتجزين بالنسبة لملعب كرة السلة كبيراً، وامتلأ الجو بالهلع والترويع، وبعد التعليمات الواضحة من جانب "المجاهدين" بعدم الحديث بأي لغة سوى الروسية، وبينما كان أحد المعلمين يحاول بلغته الأم "الأوسيتية" أن يهدئ من روع التلاميذ والأهالي، ويحاول أن يشرح لهم ما كان يقوله "المجاهدون"، سأله أحدهم: "هل انتهيت؟"

..

ثم صوب المسدس نحو رأسه وأرداه قتيلاً في نفس اللحظة عقابا له على الحديث بلغة أخرى، توالت أحداث العنف بعد ذلك، من اختيار تلاميذ الصفوف الأكبر والآباء والعاملين من الأصحاء جسمانيًا (15-20 رهينة)، وتجميعهم في ممر وتفجيرهم بأحزمة ناسفة، ثم ألقيت الجثث من نوافذ الطوابق العليا حيث نفذت عمليات القتل.

استمر حصار المدرسة ثلاثة أيام وكانت رسالة "مجاهدي فيلق الصالحين" لقوات الأمن الروسية المحاصرة للمدرسة واضحة:

"إذا قتلتم منا واحدا فقط، سوف نقتل خمسين من الرهائن، وإذا جرحتم أيا منا، سوف نقتل عشرين من الرهائن، وإذا قتلتم منا خمسة سوف ننسف المكان عن بكرة أبيه، وإذا قطعتم التيار الكهربائي لدقيقة واحدة سوف نقتل عشرة رهائن".

تطوعت 700 شخصية عامة روسية باستبدالهم بالرهائن الأطفال، لكن أحدا لم يلتفت إلى عرضهم، وكان كل ما سمح به "فيلق الصالحين" هو سيارتا إسعاف لتحمل العشرين جثة الملقاة في فناء المدرسة.

اقتحمت القوات الروسية من فرقة ألفا وأوميجا المكان، ولم تكن ترتدي واقياً للرصاص، ما يعني أن الأمور تطورت سريعاً على نحو غير متوقع في اليوم الثالث، ووقعت المجزرة التي أسفرت عن مقتل جميع أعضاء الفيلق، وبعض الرهائن والأطفال، وانتهت المعركة وبدأت الجنازات في اليوم الرابع من شهر سبتمبر، مات كثيرون في موقع الأحداث، ومات آخرون في المستشفى الوحيد في بيسلان غير المجهز لاستقبال هذا النوع من الحالات، وبلغ عدد القتلى 334، وعدد الجرحى 800، وتركت الأسئلة في الهواء: أي قضية، وأي مبدأ، وأي دين هذا الذي يسمح بذلك؟

4

لم تكن تلك معركة من معارك الحرب العالمية الثانية، بين جيوش نظامية مدججة بالسلاح، بل كانت حرباً "جديدة" في القرن الحادي والعشرين بين مختطفين ومختطفات (كان من بينهم أرامل قتلى في حرب الشيشان، يطلقن على أنفسهن لقب شهيدات) وبين أطفال عزل، لا ذنب لهم سوى أنهم أخطأوا بدخول هذا العالم، في ذلك التوقيت المرعب والمجنون. تخيّل معي نفسية تلك "الشهيدة"، التي تقف على أعتاب الموت، لتقتل هي الأخرى أطفالاً انتقامًا ممن تظنهم قاتلي زوجها وربما طفلها، أي عبث وأي جنون.. إنها دائرة مفرغة من الكراهية والدم والقتل.

في الوقت نفسه، وفي مكان ما، على الجانب الآخر من العالم، يعيش أباطرة الحروب، يرسلون الأموال والأسلحة حتى يستمر وقود الحرب في الاشتعال، وحتى يستمر القتل، والحقد، والظلم، وحتى لا تتوقف أنهار الدم عن الجريان.

إنها لحظات قبيحة قاتمة حقًا، حينما تتحول حياة البشر إلى أرقام وإحصائيات حول عدد القتلى والجرحى، حينما تصبح الروح البشرية وقودًا لأفكار مجنونة تصور الإنسان أنه تركها وراءه في غياهب العصور الوسطى، من المحزن حقا أن يفقد الدم الإنساني قدسيته، أي دم، وأي إنسان في أي مكان. من المفجع أن يتم استهداف مدرسة للأطفال، رمز الأمل والنقاء والطهارة، إنه ليس استهداف لأرواح، وإنما استهداف لقيم إنسانية عامة اتفق عليها كل البشر في كل زمان ومكان..

5

لم تعد بوليتشكا إلى منزلها في تلك الليلة، وحينما ذهب والدها بعد أربعة أيام لاستلام جثمانها الطاهر، الذي اخترقته رصاصات غادرة غيّرت من ملامح وجهها البريء، لمح ابتسامتها الملائكية الأخيرة، واحتضنها للمرة الأخيرة، وغادر بها من المشرحة إلى مثواها الأخير في مدينة الملائكة.

محمد صالح

موافق

هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط .بامكانك قراءة شروط الاستخدام لتفعيل هذه الخاصية اضغط هنا